منذ زمن تلح علي رغبة شديدة لتسجيل بعض الكلمات في حق الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ محمد سيد بركة الذي شرفت بأن زاملته لعدة مرات في عدة مؤسسات صحفية إلكترونية خلال السنوات الأولى من الألفية الثالثة مظنة أن تسجيل مثل هذه الكلمات – وفق تقديري – هو الحد الأدنى الذي يمكن أن أعبر به كما يعبر به كل من يعرفه عن مدى عرفاننا وامتنانا لمثل هذا الرجل الذي وهب حياته لخدمة الثقافة والتنوير الحقيقي.
ولعله مما شجعني على كتابة هذه الكلمات في الوقت الراهن عدة أسباب منها أن نقابة الصحفيين المصريين احتلفت مؤخرا بتكريم "رواد" الصحافة في مصر وهي لفتة طيبة من مجلس النقابة ومن ثم وبما أن أستاذنا الأستاذ بركة قد تجاوز الستين من عمره منذ سنوات فكان لزاما أن نشارك في هذا التكريم بطريقتنا فيما أنه ليست ثمة شبهة - ولله الحمد - حول تسجيل هذه الكلمات فلم تعد بيني وبين كاتبنا الكبير أي صلة عمل منذ سنوات طويلة بل لست أبالغ عندما أؤكد أننا لم نلتق منذ نحو خمسة عشر عاما تقريبا وأنه طيلة كل هذه المدة لم يكن بيننا إلا عدد قليل من الاتصالات الهاتفية غير أنني بالطبع من متابعي أنشطته الثقافية التي تعد لوحدها في نظري بمثابة حاملة طائرات.
وزير ثقافة الظل
ربما سبق وأن كتبت منذ مدة "بوستا" أشرت فيه إلى حجم الدور الكبير الذي يقوم به الأستاذ بركة على صفحته الشخصية بالفيس بوك وهو دور يعادل ما تقوم به عدة مؤسسات ثقافية إذ لا يمر يوم دون أن يقدم لنا فيه الأستاذ بركة جرعة ثقافية مهمة أبرزها عرض شيق لكتاب من الكتب المهمة في مختلف المجالات الأدبية والفكرية والفلسفية والدينية.
والمثير أن الأستاذ بركة يقوم بهذا الدور دون أجر منتظر فهو – وحسب علمي - لا ينتمي على الإطلاق لأية مؤسسة صحفية أو إعلامية يقوم بتحرير هذه المواد لها فيتقاضى عنها أجرا ماديا كبقية الزملاء من المحررين الثقافيين أو المسئولين عن الصفحات الثقافية في الصحف الورقية أو المواقع الإلكترونية اللهم إلا القليل الذي يساعده على الوفاء باستحقاقات الحياة والمسئوليات الاجتماعية ومن ثم فهو يكتفي بنشر تلك المواد الثقافية على صفحته الشخصية ليساهم في حركة التوعية الثقافية.
ورغم ما سبق فإن الأستاذ بركة لم يسع يوما – وهو القادر على فعل ذلك – إلى أن يمارس مظاهر الرياء الثقافي – إن جاز التعبير – في محاولة منه لتصدر المشهد الثقافي ومن ثم احتلال موقع وظيفي أو التحصل على ما تحصل عليه الكثيرون وبعضهم من المدعين وغير المستحقين على ما يطلق عليه مكافآت التفرغ الثقافي فالدافع وراء الرجل للقيام بما يقوم به هو الوفاء لدوره الثقافي الرسالي وشعوره الوطني الخالص لذا استشعرت بأن واجبي أن أنصبه ولو بيني وبين نفسي وزيرا لثقافتنا في حكومة الظل.
شخصية متسقة
ربما قدر لي كما قدر لأغلب الزملاء الصحفيين أن يخالطوا وعن قرب الكثير من المثقفين والإعلاميين المتخصصين في مختلف المجالات الأمر الذي مكنهم من تسجيل العديد من الملاحظات السلبية على بعض المثقفين والإعلاميين ومنها إصابة بعضهم بحالة من التبلد والفتور في التعاطي مع المسائل الثقافية والإعلامية فهي لديهم لا تعدو عن كونها سبابيب - جمع سبوبة – فالتفاعل معها مصطنع والاهتمام بها مدفوع الأجر وعليه فإن مواقفهم لا تنطلق من مبادئ ثابتة ومن ثم فهي تتغير تبعا لتغير المصلحة ومنها أيضا أن بعضهم مصاب بازدواجية في السلوك فهو فيما يقدم أو يكتب أو ما يبدو عليه أمام الكاميرا عف اللسان راق مستنير منفتح على الجميع في حين أنه في دوائره الضيقة سليط اللسان يتلفظ بكل ما هو سوقي مستبد يتعالى على من حوله وهي الازدواجية التي تشعرك بالأسى والتحسر على واقعنا الإعلامي والثقافي لكن وفي مقابل ذلك تجد نماذجا أخرى مشرفة للمثقف المتسق مع ذاته ومن بينهم أستاذنا الأستاذ بركة الذي هو أبعد ما يكون عن التصنع أو التجمل في إنتاجه أو سلوكه فيعبر في كليهما عن روح ونفس جميلتين وأصل طيب وكريم أخلاق.
خلال كل التجارب التي تزاملنا فيها لا أذكر يوما أن الأستاذ بركة تعامل معي باستعلاء رغم فارق السن بيينا أو أنه أشعرني بضحالة أو سطحية ما أطرح بل إنه كان دائما ما ينصت لي باهتمام راسما على وجهه ابتسامة محبة لا ابتسامة مزيفة أو ساخرة يشعرك بأنه يريد أن يستزيد من عرض أفكارك بل لم يحرمني يوما من دعمه وتضامنه عندما كنت أتعرض أحيانا للتنمر أو للسخرية من بعض زملاء وأساتذة يتبنون أفكارا مغايرة لما كنت عليه فكانوا لا يلتزمون أدب الخلاف فكان بدعمه هذا – وربما هو لا يعلم ذلك - يزيد من ثقتي في نفسي ويشد من أزري ويدفعني لمواصلة ما أنا عليه دون إحباط أو شعور بالفشل فكان نعم المثقف الخلوق.
كذلك ورغم كل ما طالعه الأستاذ بركة من كتب وتعرف عليه من ثقافات واقتناه من صحف ومجلات ودوريات وموسوعات امتلأت بها أركان بيته حتى أنه خصص لها دورا كاملا في منزله الريفي بمحافظة القليوبية إلا أنني لم أره ولو لمرة واحدة يحاول استعراض عضلاته الثقافية بل غالبا ما كان يجلس في مقعد المستمع الذي لا يتكلم إلا قليلا فيظن الجالس من غير العالمين به أن بضاعته قليلة لكن سرعان ما يدرك هذا الواهم أن صمت أستاذنا حكمة وأن وراءه رغبة في أن يقرأ بشكل جيد شخصية المتحدث.
ولتأكيد اتساق الأستاذ بركة مع ذاته فقد حرص طيلة عمره على أن ينأى بنفسه أن يكون تبعا لجهة أيا كانت هذه الجهة سلطة أو تنظيم سياسي أو ديني إدراكا منه أن هذه التبعية تعنى في حدها الأدنى فرض أجندة ثقافية معينة أو ترويج لأفكار مقولبة يأبى هو أن يكون أسيرا لها غير أن ذلك كله لم يمنعه من أن يكون وباستمرار وبلا تردد منحازا للثوابت الدينية والوطنية مدافعا عنها وداعيا للالتزام بها.
كذلك وفي إقامته بمسقط رأسه بمحافظة القليوبية لم يتوان الأستاذ بركة في أن يضرب لنا النموذج ويعطينا القدوة للمثقف الذي تشبث بجذوره ولم ينبهر بأضواء القاهرة فيزيد بسكناها ازدحامها وهو الأحق بالإقامة بها فأكد بذلك أن الراغب في المشاركة في خدمة وطنه ورسالته – إن خلصت نيته - يمكن أن يقوم بها من أي مكان.
مرة أخرى كم تمنيت أن يصبح بركة وزيرا للثقافة أو مسئولا بها فبكل تأكيد كان سيتخذ حزمة من القرارات والإجراءات التي حتما ستنهض وترتقي بحياتنا الثقافية لكن ما باليد حيلة فغاية ما يمكننا هو التمني.
وأخيرا فإني أقولها وبصوت عال لكل ذي صلة بالأستاذ بركة أو اقترب منه : أولاده وأبناء بلده وكل الزملاء الصحفيين والإعلاميين الذين عملوا معه: "عليكم أن تفخروا بهذا الرجل".. كل التحية أستاذنا..